السبت، 24 يوليو 2010

( ثائر) قصة قصيرة




كمثله تتمني الحوامل حمله في بطونها ، تطبطب في أشباهه الامهات في حنانها، يناديه إندفاع المنادي من بعيد وفي أكفِّه الصغيرين بقايا اتربةٍ من حجارة تتساقط بثقلها الخفيف علي رأس البعيد ، فما باليد من حيلةٍ سواها ، وما في الجُعبِ من مخبوئةٍ تراها ، يتسابق معه الريح في سيطه ، يشتاك منه الخوف في إعصاره ، نظراته فيها مسحٌ من قوة ، وبريقٌ من تحدٍ لا تخرُّه ضعاف الهمم ولا تماثيل الفخار .

علي عتبات الدور ينتظرنه النسوة كل يومٍ جديد ، يتفحصنه ، يتناقلن تقمصات سيره ، يتهادين بمحاسنه فلعلهن يتوحمن به فتراهن يلدن بثائرٍ جديد .

دخل البيت ووجه مشحوب المحيا ، شارد الذهن وعينيه متلحّفةً بالذهول لبرهة ، سارحٌ بالفكر إن طلبته ، مترهلُ الصوت إن سمعته ، فالحال خُيّل إليه قد طال ، والكل في تكهناته اضحي بانفعال ، وجدّه علي شفير الموت ما زال حَلِمٌ بالعودة عما قريب .

جلس ثائرٌ مع ابيه وظل في صمته سائر ، تنفس بصوتٍ مرتفع ، وتنهد بهواءٍ متقطع ، ثم سرت دمعاتٌ تلتها حسرات ، اسرع نحو النافذة ووقف يتأمل ما تري به عيناه ثم قال: أبي .. الوقت بنا ينفذ ، والجدُّ في عمره متعب ، أراه يحمل في خلجاته قلباً فيه تأوهاتٍ علي اشياءٍ عدة ، علي الكرم .. علي الزيتون ..علي الارض المسلوبة ، كيف الخلاص يا ابي؟ دلني وما اظنك تسقيني الرذاذ .
نظر اليه الاب في عطفه الدارج وقال : بني .. طريق الخلاص قد اصبح غالٍ ، وفي سبيل الخير المراد يرخص ، افتح بقلبك باب القوة ، وتوسّم بشجاعتك روح الفتية ، ثم زدها بإخلاص للباري سبحانه وإجعله في رأس القمة ، ولا يكن اندفاعك نحو المجهول بالحمية والعصبية ، وتوخاها بحدسك مرة اخري ، حينها لن تذهب اتعابك ادراج الرياح .

حينها اُفرغت بوتقة الوالد بما فيها من كلمات واستقرت صهارتها في قلبه الي حد قد لا تألفُه روح الركود والاختزال .
خرج ساعتها والوجه فيه متهللٌ، ونور السعد في سرّه مستبشرٌ، ناداه صديقه احمد فاشار إليه بتعجّلٍ في المسير .
تقابلت الوجوه وتصافحت القلوب بحبها، ثم تطرق أحمد في تعجّبه من حال صاحبه وما سارت به الساعات في داره فهو مبشوش الوجه ، مفرود الثغر، فحاله منقلب!! ، يا ثائر حدثني ما الخبر ؟
نظر اليه ثائر وقال له بصوت واثقٍ : غدا ستعرفه ولا مفر ..

مرت الايام بحلوها ومرِّها ، وتبعتها الشهور في تجمُعها، ثم سارت السنين بحِملها حتي اضحي به العمر العشرين، انطفأت زهرة الجدّ وتوسد جثمانه التراب ولم ينل ما تاقت فيه روحه الابية .

في مساء يومٍ مشمسٍ تغشاه الغيوم بتلاحقها ، سكنت الطيور اعشاشها ، وتوسدت الوحوش مخادعها، وتلاحقت الشمس في مغيبها حتي اختفت وسكن الشجون ..


استعد ثائر لليوم المنشود ، خرج وطارت في سمائه حمامةٌ تحمل في منقارها زهرة الحنون ، ألقت بها في طريقه وطارت في الافق البعيد حتي إختفت ، امسك بها وتفحصها وقال لنفسه تلك من عبق بلادي المسلوبة التي سأراها عما قريب .
تابع المسير حتي تلاحقت به الانفاس في كتمانها ، الاسلاك شائكة ، فتمايل الظهر في انحنائه ، دخل فرأي ما لم يراه من قبل ، راي روحاً بالأرض متعلقةً ، وانفساً بها سابحة ، وافئدةً في حقولها تسير، ففاجأه جدّه يعْدُوا في سرعة متناهيةً كريحٍ لا تعرف الحدود ، سار الانبهار في وجهه وقال: ما تلك بأحلام ولا بتكهنات ،تابع المسير ، فإندفع ثائر نحو الكمين واستل سلاحه قرب مجمع الجنود وقال: حان الوقت الان ..


نشدنا الارض في حبها للجدود نابعة
وقلوبنا في أثيرها للأفق بما سرت به واجد

سنذكر العودة وإن طالت بنا بالـبعد سائبة
والروح في اديمها قد غَلَت والرخص لها سائد

سنرجع مهما افترت به علينا الوان السبايا
والقرب في حلوله كالقمر في السماء عائد

حينها دبت اصوات انفجارات عدة ، ثم تبعتها زخات رشاش مولع ، انجذبتْ عندها أسماع الناس في قريته نحو المذياع لتعرف الخبر ..
جنودٌ صرعي ، بين قتيل وجريح ، والفاعل فلسطيني مجهول ، يحمل في يمينه السلاح ، وفي الاخري كتاب عزيز، وفي نحره مفتاح قديم ، دخل الارض كما تمناها الجدُّ ، ولكنه لم يدم فيه طويلا ، لكنه حقق المراد وتنفس عطرها الفواح ، واستراح في عبيرها المِلَاح ، ثم أرتقت فيها الروح وانتقلت الي جوار ربها واستراح جسد ثائر .
انتهي ....

دمتمـــــــــــــــــــــــــــ
محمود
كتب بتاريخ 23/7/2010

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته\\
    رائع رائع رائع ما خطته أناملك أخي الكريم
    مؤثّر بشكل لا يوصف
    إنّنا لطالما عاش الاحبّة اخواننا الفلسطينيون في الشتات مع حق العودة وإنا ها هنا بانتظار عودتهم بإذن الله عزّ وجل
    جزاكم الله كل خير على ما نسجتموه من روائع
    احييكم

    ردحذف